فصل: (فرع: كيفية القبض)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: كيفية القبض]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والقبض في العبد والثوب وما يحول: أن يأخذه مرتهنه من يد راهنه، وقبض ما لا يحول من أرض أو دار: أن يسلمه بلا حائل). وهذا كما قال: القبض في الرهن كالقبض في البيع. فإذا رهنه ما ينقل، مثل: الدراهم، والدنانير، والثياب.. فقبضها أن يتناولها، وينقلها من مكان إلى مكان.
وكذلك: إذا رهنه عبدا أو بهيمة.. فقبض العبد أن يأخذه بيده، وينقله من مكان إلى مكان، وفي البهيمة أن يقودها أو يسوقها من مكان إلى مكان. وإن رهنه صبرة جزافا.. فقبضها أن ينقلها من مكان إلى مكان، وإن رهنه مكيلا من صبرة فقبضه بالكيل. وإن رهنه ما لا ينقل، كالأرض، والدار، والدكان.. فالقبض فيها أن يزيل الراهن يده عنها، بأن يخرج منها، ويسلمها إلى المرتهن، ولا حائل بينه وبينها. فإن رهنه دارا، فخلى بينه وبينها وهما فيها، ثم خرج الراهن.. صح القبض.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح حتى يخلي بينه وبينها بعد خروجه منها؛ لأنه إذا كان في الدار.. فيده عليها، فلا تصح التخلية). وهذا ليس بصحيح؛ لأن التخلية تحصل بقوله، وبرفع يده عنها، ألا ترى أن بخروجه من الدار لا تزول يده عنها، وبدخوله إلى دار غيره لا تثبت يده عليها؟ ولأنه بخروجه عنها محقق لقوله، فلا معنى لإعادة التخلية. هكذا ذكره ابن الصباغ.
قال: وإن خلى بينه وبين الدار، وفيها قماش للراهن.. صح التسليم في الدار. وقال أبو حنيفة: (لا يصح التسليم في الدار؛ لأنها مشغولة بملك الراهن). وكذلك يقول: (إذا رهنه دابة عليها حمل للراهن، وسلم الجميع إليه.. لم يصح قبض الدابة، ولو رهنه الحمل دون الدابة، أو معها، وسلمها إليه.. صح القبض).
وكذلك يقول في قماش الدار. وهذا ليس بصحيح؛ لأن كل ما كان قبضا في البيع..
كان قبضا في الرهن، كالحمل، وقد قال: (إذا رهنه سرج دابة ولجامها، وسلمها بذلك.. لم يصح القبض فيه؛ لأنه تابع للدابة). وهذا ينقض ما ذكره في الحمل.
وقوله: (إنه تابع) فيبطل به إذا باع الدابة.. فإن السرج لا يدخل فيه، وعلى أن الدابة في يده، وكذلك ما تبعها.

.[فرع: جوازالتوكيل في قبض الرهن]

قال الصيمري: ولو قال الراهن للمرتهن: وكل عني رجلا ليقبضك أو ليقبض وكيلك عني.. جاز. ولو أمر الراهن وكيله ليقبض المرتهن، فأقبض وكيله.. جاز.

.[فرع: الإقرار بقبض الرهن]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والإقرار بقبض الرهن جائز، إلا فيما لا يمكن في مثله). وهذا كما قال: إذا أقر الراهن بالإقباض إقرارا مطلقا، وصدقه المرتهن على ذلك.. حكم بصحة ذلك؛ لأنه يمكن صدقهما، وإن علقا ذلك بزمان لا يمكن صدقهما فيه، مثل: أن يقرا بأنهما تراهنا دارا ببغداد، وتقابضاها اليوم وهما بمكة.. فإن هذا لا يمكن ولا يثبت، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا أقر الرجل أن زوجته أمه من الرضاع أو ابنته، فإن كان سنه مثل سنها.. لم يقبل، ولم ينفسخ النكاح، وإن أمكن صدقه.. قبل، وحكم بانفساخ النكاح).
فإن عقد على عين رهنا وإجارة، ثم أذن له في قبضها عنهما، أو عن الرهن، فقبضها صارت مقبوضة عنهما؛ لأن الإجارة لا تفتقر إلى الإذن بالقبض، والرهن يفتقر. وإن أذن له في قبضها عن الإجارة.. صارت مقبوضة عن الإجارة دون الرهن؛ لأنه لم يأذن له في القبض عن الرهن.

.[مسألة: رجوع الراهن عن الإذن قبل القبض]

وإن رهنه عينا، وأذن له بقبضها، فقبل أن يقبضها المرتهن رجع الراهن عن الإذن.. لم يكن للمرتهن قبضها؛ لأنه إنما يقبضها بإذن الراهن، وقد بطل إذنه برجوعه. وإن رهنه شيئا، ثم جن الراهن، أو أغمي عليه، أو أفلس، أو حجر عليه.. لم يصح إقباض الراهن، ولا يكون للمرتهن قبضه؛ لأنه لا يصح قبضه إلا بإذن الراهن، وقد خرج عن أن يكون من أهل الإذن.
وكذلك: إذا أذن له في القبض، فقبل أن يقبض طرأ على الراهن الجنون، أو الإغماء، أو الحجر.. بطل إذنه لذلك، ولا يبطل الرهن بذلك.
وقال أبو إسحاق: يبطل الرهن بذلك؛ لأن الرهن قبل القبض من العقود الجائزة، فيبطل بهذه الأشياء، كالوكالة والشركة. والمذهب الأول؛ لأن الرهن يؤول إلى اللزوم، فهو كالبيع بشرط الخيار. وقيل: إن أبا إسحاق رجع عن هذا.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن الولي عن المجنون والمغمى عليه ينظر:
فإن كان الحظ بإقباض الرهن، مثل: أن يكون شرطاه في بيع يستضر بفسخه أو ما أشبه ذلك.. أقبضه عنهما.
وإن كان الحظ في تركه.. لم يقبضه.
وإن كان للمحجور عليه غرماء غير المرتهن.. قال ابن الصباغ: لم يجز للحاكم تسليم الرهن إلى من رهنه عنده قبل الحجر؛ لأنه ليس له أن يبتدئ عقد الرهن في هذه الحالة، فكذلك تسليم الرهن.

.[فرع: تصرف الراهن قبل الإقباض يبطله]

وإن رهن عند غيره رهنا، ثم تصرف فيه الراهن قبل القبض.. نظرت:
فإن باعه، أو أصدقه، أو جعله عوضا في خلع، أو وهبه وأقبضه، أو رهنه وأقبضه، أو كان عبدا فأعتقه، أو كاتبه.. بطل الرهن؛ لأنه يملك فسخ الرهن قبل القبض، فجعلت هذه التصرفات اختيارا منه للفسخ، وإن كانت أمة فزوجها، أو عبدا فزوجه.. لم يبطل الرهن؛ لأن التزويج لا ينافي الرهن. ولهذا يصح رهن الأمة المزوجة والعبد المزوج.
وإن أجر الرهن، فإن قلنا: يجوز بيع المستأجر.. لم ينفسخ الرهن بالإجارة، وإن قلنا: لا يجوز بيع المستأجر، فإن كانت مدة الإجارة تنقضي قبل حلول الدين لم ينفسخ الرهن، وإن كان الدين يحل قبل انقضاء مدة الإجارة.. انفسخ الرهن بها.
وإن دبر الراهن العبد المرهون.. فالمنصوص: (أن الرهن ينفسخ).
قال الربيع: وفيه قول آخر: (أنه لا ينفسخ)؛ لأن تدبيره لا يمنع من بيعه. والأول أصح؛ لأن موجب التدبير هو العتق، وهو ينافي الرهن.
قال أصحابنا: وما حكاه الربيع.. فهو من تخريجه. وأما إذا رهنه الراهن من آخر ولم يقبضه، أو وهبه ولم يقبضه.. كان ذلك إبطالا للرهن الأول، على المشهور من المذهب؛ لأن موجبه ينافي الرهن وعلى تخريج الربيع لا يكون رجوعا في الرهن.

.[فرع: استدامة القبض]

استدامة القبض في الرهن ليس بشرط في الرهن.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (استدامة القبض شرط فيه).
دليلنا: أنه عقد يعتبر فيه القبض، فلم تكن استدامته شرطا، كالهبة مع أبي حنيفة، والقرض مع مالك رحمة الله عليهما.

.[فرع: خرس الراهن]

إذا رهن شيئا ثم خرس الراهن قبل الإذن بالقبض، فإن كانت له إشارة مفهومة، وأذن بالقبض بالإشارة.. جاز للمرتهن قبضه؛ لأن إشارته كعبارة الناطق، وإن لم تكن له إشارة مفهومة.. لم يكن للمرتهن قبض الرهن؛ لعدم الإذن من الراهن.
وإن رهنه وأذن له بالقبض، ثم خرس الراهن قبل القبض.. قال ابن الصباغ: فينبغي أن ينظر:
فإن كانت للراهن إشارة مفهومة أو كتابة.. لم يبطل إذنه.
وإن لم يكن له شيء من ذلك.. بطل إذنه، كالمغمى عليه والمجنون.

.[مسألة: موت أحد المتراهنين]

وإن عقد الرهن، ثم مات أحد المتراهنين قبل القبض.. فقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الرهن لا ينفسخ بموت المرتهن، بل الراهن بالخيار: بين أن يقبض ورثة المرتهن، أولا يقبضهم).
وحكى الداركي: أن الشافعي قال في موضع آخر: (إن الرهن ينفسخ بموت الراهن قبل التسليم). واختلف أصحابنا في المسألة على ثلاثة طرق:
فالطريق الأول منهم من نقل جوابه في كل واحدةٍ منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين:
أحدهما: ينفسخ بموت أحدهما؛ لأنه عقد جائز، فبطل بالموت، كالوكالة والشركة.
والثاني: لا ينفسخ بموت واحدٍ منهما؛ لأنه عقد يؤول إلى اللزوم، فلم ينفسخ بالموت، كالبيع بشرط الخيار.
والطريق الثاني منهم من قال: ينفسخ بموت الراهن، ولا ينفسخ بموت المرتهن؛ لأن بموت المرتهن لا يحل الدين المؤجل عليه، وبموت الراهن يحل الدين المؤجل عليه، فإن كان عليه دين غير دين المرتهن.. كان للمرتهن أسوة الغرماء، ولا يجوز للورثة تخصيص المرتهن بالرهن، وإن لم يكن عليه دين غير المرهون به.. فقد تعلق الدين بجميع التركة، فلا وجه لتسليم الرهن به، وليس كذلك المرتهن، فإن ماله من الدين لا يحل بموته، فالحاجة باقية إلى الاستيثاق بالرهن.
والطريق الثالث من أصحابنا من قال: لا يبطل الرهن بموت واحد منهما، قولا واحدا؛ لأن الرهن إذا لم ينفسخ بموت المرتهن، والعقد لا يلزم من جهته بحال.. فلأن لا يبطل بموت الراهن ـ والعقد قد لزم من جهته بعد القبض ـ أولى.
وأنكر الشيخ أبو حامد ما حكاه الداركي، وقال: بل كلام الشافعي يدل على: أن الرهن لا ينفسخ بموت الراهن؛ لأنه قال في "الأم": (وإذا رهن عند رجل شيئا، ثم مات الراهن قبل أن يقبض الرهن، فإن كان عليه دين.. كان له أسوة الغرماء، وإن لم يكن عليه دين.. فوارثه بالخيار: بين أن يقبض الرهن المرتهن، أو يمنعه).
وإن مات أحدهما بعد القبض.. لم ينفسخ الرهن بلا خلاف، ويقوم وارث كل واحد منهما مقامه؛ لأن الرهن لازم من جهة الراهن، والعقد اللازم لا يبطل بالموت، كالبيع والإجارة.

.[مسألة: امتناع الراهن من الإقباض]

إذا امتنع الراهن من الإقباض، أو انفسخ عقد الرهن قبل القبض.. نظرت:
فإن كان الرهن غير مشروط في العقد.. بقي الدين بغير رهن، ولا خيار للمرتهن.
وإن كان الرهن مشروطا في بيع.. ثبت للبائع الخيار: بين فسخ البيع، وبين إمضائه؛ لأنه دخل في البيع بشرط الوثيقة، ولم تسلم له الوثيقة، فثبت له الخيار.

.[مسألة: لزوم الرهن بالإقباض]

وإذا أقبض الراهن الرهن.. لزم من جهته، فلا يملك فسخه.
قال ابن الصباغ: وهو إجماع لا خلاف فيه، ولأنه يراد للوثيقة، فلو جاز له الفسخ.. لم يحصل بذلك وثيقة، وإذا قبض الرهن.. فإنه يكون وثيقة بالدين، وبكل جزء منه. فإذا رهنه عبدين بألف، وقبضهما المرتهن، ثم تلف أحدهما.. كان الباقي رهنا بجميع الألف، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما روي عنه في الأصول.
وروي عنه في " الزيادات ": (أن الدين يتقسط على الرهن).
دليلنا: أنه مال محبوس بحق، فوجب أن يكون محبوسا بالحق، وبكل جزء منه، كما لو مات وخلف تركة ودينا عليه.. فإن التركة محبوسة بالدين، وبكل جزء منه، ولأن وثيقة بحق، فكان وثيقة بالحق، وبكل جزء منه، كالشهادة، والضمان.
فإذا قضى الراهن الدين، أو أبرأه منه المرتهن، والرهن في يد المرتهن.. بقي في يده أمانة.
وقال أبو حنيفة: (إن قضاه الراهن.. كان الرهن مضمونا على المرتهن، وإن أبرأه المرتهن، أو وهبه، ثم تلف الرهن في يده.. لم يضمنه استحسانا؛ لأن البراءة والرهن لا تقتضي الضمان). وهذا مناقضة منه؛ لأن القبض المضمون عنده لم يزل، ولم يبرئه منه.

.[فرع: أسلم بطعام وأخذ رهنا]

وإن أسلم في طعام، فأخذ به رهنا، ثم تقايلا عقد السلم.. برئ المسلم إليه من الطعام، ووجب عليه رد رأس مال المسلم، وبطل الرهن؛ لأن الدين الذي ارتهن به قد سقط، ولا يكون له حبس الرهن، إلا أنه يأخذ رأس المال؛ لأنه لم يرهنه به.
وإن اقترض منه ألفا، ورهنه بها رهنا، ثم أخذ المقرض بالألف عينا.. سقطت الألف عن ذمة المقترض، وبطل الرهن، فإن تلفت العين في يد المقترض قبل أن يقبضها المقرض.. انفسخ القضاء، وعاد القرض والرهن؛ لأنه متعلق به، وقد عاد.
قال الشيخ أبو حامد: وإن باع من رجل كر طعام بألف درهم إلى أجل، وأخذ بالثمن رهنا، فإذا حل الأجل، أو كان حالا.. فللبائع أن يأخذ منه بدل الثمن دنانير، فإذا أخذها.. انفسخ الرهن، وإن تفرقا قبل القبض.. بطل القضاء، وعاد الثمن إلى ذمة المشتري، ويعود الرهن؛ لأن الرهن من حق ذلك الثمن، فسقط بسقوطه، فإذا عاد الثمن.. عاد بحقه.
وإن ابتاع منه مائة دينار بألف درهم في ذمته، ودفع عن الدراهم رهنا.. صح، فإن تقابضا في المجلس.. صح الصرف، وانفك الرهن، وإن تفرقا من غير قبض.. بطل الصرف والرهن.

.[فرع: لرهن من اثنين]

وإن كان لرجل على رجلين دين، فرهناه ملكا بينهما مشاعا.. جاز، كما لو باعا ذلك منه، فإذا قضاه أحدهما ما عليه له، أو أبرأ المرتهن أحدهما.. انفك نصف الرهن؛ لأن الصفقة إذا حصل في أحد شطريها عاقدان.. فهما عقدان، فلا يقف الفكاك في أحدهما على الفكاك في الآخر، فإن طلب من انفك نصيبه القسمة.. نظرت:
فإن كان الرهن مما لا تتساوى أجزاؤه، كالثياب، والحيوان، أو كانا دارين، فأراد من انفك نصيبه أن يجعل كل دار بينهما.. لم يجز ذلك من غير إذن المرتهن؛ لأن ذلك مناقلة، والرهن يمنع من ذلك.
وإن كان الرهن مما تتساوى أجزاؤه، كالطعام.. فله المطالبة بقسمته؛ لأنه لا ضرر على المرتهن بذلك، وهكذا: إذا كانت الأرض متساوية الأجزاء.. فهي كالطعام.
وإن كان الرهن مما تنقص قيمته بالقسمة، كالحجرة الواحدة إذا أراد قسمتها نصفين.. فهل للمرتهن أن يمتنع؟ فيه وجهان:
أحدهما: له أن يمتنع؛ لأن الضرر يدخل عليه بذلك.
والثاني: ليس له أن يمتنع؛ لأن المرتهن عنده النصف، فلا يملك الاعتراض على المالك فيما لا حق له فيه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في "الإبانة" ق\ 262] إن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين.. جازت القسمة، وإن قلنا: إنها بيع.. لم تجز.
وإن رهن رجل ملكا له عند رجلين بدين لهما عليه، فقضى أحدهما دينه، أو أبرأه أحدهما عن دينه.. انفك نصف الرهن؛ لأن في أحد شطري الصفقة عاقدين، فهما كالعقدين، والحكم في القسمة ما مضى.

.[مسألة: العيب في الرهن]

وإذا قبض المرتهن الرهن، ثم وجد به عيبا كان موجودا في يد الراهن.. نظرت:
فإن كان الرهن غير مشروط في عقد البيع.. فلا خيار للمرتهن في فسخ البيع؛ لأن الراهن متطوع بالرهن.
وإن كان الرهن مشروطا في عقد البيع.. ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه لم يسلم له الشرط.
وإن لم يعلم بالعيب حتى هلك الرهن عنده، أو حدث عنده به عيب.. لم يثبت له الخيار؛ لأنه لا يمكنه رد الرهن كما أخذ، ولا يثبت له أرش العيب، كما يثبت للمشتري أرش العيب، والفرق بينهما: أن المبيع يجبر البائع على إقباضه، فأجبر على دفع الأرش، والراهن لا يجبر على إقباض الرهن، فلم يجبر على دفع الأرش، ولأن المبيع لو تلف جميعه في يد البائع قبل التسليم.. لوجب عليه ضمانه بالثمن، وهاهنا لو تلف الرهن في يد الراهن قبل التسليم.. لم يجب عليه بدله، فلم يجب عليه بدل جزء منه، ولأنا لو قلنا: لا أرش للمشتري.. لأسقطنا حقه، وهاهنا لا يسقط حق المرتهن؛ لأن حقه في ذمة الراهن.
قال الشيخ أبو حامد: فلو باعه شيئا بشرط أن يرهنه عبدين، فرهنهما عنده، وأقبضه أحدهما دون الآخر، وتلف عند المرتهن، وامتنع الراهن من إقباض الثاني، أو تلف في يد الراهن.. لم يكن للمرتهن الخيار في فسخ البيع؛ لأنه لا يمكن رد العبد الذي قبض، فيمضي البيع بلا رهن.
وبالله التوفيق

.[باب ما يجوز رهنه وما لا يجوز]

كل ما لا يجوز بيعه، كالكلب، والخنزير، وما أشبههما.. لا يجوز رهنه؛ لأن الرهن يراد ليستوفى الحق من ثمنه، وهذا لا يوجد فيما لا يجوز بيعه.

.[مسألة: رهن شيء رطب يقبل التجفيف]

وإن رهنه شيئا رطبا يسرع إليه الفساد، فإن كان مما يمكن تجفيفه كالرطب والعنب.. صح رهنه، ووجب على الراهن مؤنة تجفيفه، كما يجب عليه مؤنة حفظه، وعلف الحيوان، وإن كان مما لا يمكن تجفيفه، كالبقل، والبطيخ، والهريس.. نظرت:
فإن رهنه بحق حال، أو بمؤجل يحل قبل فساده.. صح الرهن؛ لأنه يمكن استيفاء الحق من ثمنه.
وإن رهنه بدين مؤجل يفسد قبل حلول الدين.. نظرت:
فإن شرط المرتهن على الراهن بيع الرهن عند خوف الفساد؛ ليكون ثمنه رهنا.. صح الرهن؛ لأن الغرض يحصل بذلك.
وإن شرط الراهن أن لا يباع إلا بعد حلول الحق.. لم يصح الرهن؛ لأنه يتلف، ولا يحصل المقصود، وإن أطلقا ذلك.. ففيه قولان:
أحدهما: يصح الرهن، فإذا خيف عليه الفساد.. بيع، وجعل ثمنه رهنا؛ لأن العقد يبنى على عرف الناس، وفي عرفهم: أن المالك لا يترك من ماله ما يخاف عليه الفساد ليفسد.
والثاني: لا يصح الرهن، وهو الصحيح؛ لأنه لا يمكن إجبار الراهن على إزالة ملكه قبل حلول الدين، فإذا كان كذلك.. فلا يمكن استيفاء الحق من ثمنه، فلم يصح رهنه، كأم الولد.

.[مسألة: رهن العبد المعلق عتقه على صفة]

وإن علق عتق عبده على صفة، ثم رهنه.. ففيه ثلاث مسائل:
الأولى: إذا قال: إذا جاء رأس الشهر.. فأنت حر، ثم رهنه بحق حال، أو بمؤجل يحل قبل مجيء رأس الشهر.. فيصح الرهن، قولا واحدا؛ لأنه يمكن استيفاء الحق من ثمنه.
الثانية: أن يرهنه بحق مؤجل توجد الصفة قبله، فقد قال عامة أصحابنا: لا يصح، قولا واحدا.
وقال أبو علي الطبري: فيه قولان، كرهن ما يسرع إليه الفساد. والصحيح هو الأول؛ لأن الطعام الرطب، الظاهر من جهة الراهن بيعه إذا خيف عليه الفساد وجعل ثمنه رهنا، والظاهر ممن علق عتق عبده على صفة: أنه أراد إيقاع العتق بذلك.
الثالثة: إذا علق عتقه على صفة يجوز أن توجد قبل حلول الدين، ويجوز أن يحل الدين قبلها، بأن يقول: إذا قدم زيد.. فأنت حر. أو إذا دخلت الدار، أو كلمت زيدا.. فأنت حر.. فهل يصح رهنه هاهنا بعد ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح الرهن؛ لأن وقوع العتق قبل محل الدين مشكوك فيه.
والثاني: لا يصح؛ لأن الصفة قد توجد قبل محل الدين، فيبطل الرهن، وذلك غرر من غير حاجة، فلم يجز. هذا قول عامة أصحابنا.
وقال أبو علي في "الإفصاح": لا يصح رهنه، قولا واحدا، لأنه عقد الرهن على غرر.

.[مسألة: رهن عبده بعد تدبيره]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو دبره، ثم رهنه.. كان الرهن مفسوخا).
وجملة ذلك: أنه إذا قال لعبده: إذا مت.. فأنت حر، ثم رهنه بعد ذلك.. فاختلف أصحابنا في صحة الرهن على ثلاث طرق:
فأحدها منهم من قال: إن قلنا: إن التدبير وصية.. صح الرهن، وبطل التدبير؛ لأن الوصية يجوز الرجوع فيها بالقول، فجعل الرهن رجوعا. وإن قلنا: إن التدبير عتق بصفة.. لم يصح الرهن؛ لأنه لا يصح الرجوع فيه إلا بتصرف يزيل الملك.
قال: وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (كان الرهن مفسوخا) أراد على هذا القول.
والثاني: منهم من قال: لا يصح الرهن، قولا واحدا، وعليه يدل ظاهر قوله في "الأم" [3/140]؛ لأنه قال: (إذا دبر عبده، ثم رهنه.. كان الرهن مفسوخا. ولو قال: كنت رجعت عن التدبير قبل الرهن.. فهل يصح الرهن؟ فيه قولان).
وهذا نص في أنه لا يصح الرهن قبل الرجوع، قولا واحدا، ولأنا وإن قلنا: إن التدبير وصية، إلا أنه أقوى من الوصية، بدليل: أنه يتنجز بالموت من غير قبول، بخلاف الوصية.
والثالث منهم من قال: يصح الرهن، قولا واحدا، ولا يبطل التدبير؛ لأن الشافعي قال: (كل ما جاز بيعه.. جاز رهنه). والمدبر يجوز بيعه، قولا واحدا، فكذلك رهنه.
قال ابن الصباغ: والطريقة الأولى أصح، والثانية ظاهر كلامه، والثالثة مخالفة للنص والقياس.
فإذا قلنا بالطريقة الأولى، وأن الرهن يصح إذا قلنا: إن التدبير وصية.. فإن التدبير يبطل، وهو اختيار المزني. فإن قضى الحق من غيره.. فلا كلام، ولم يعتق العبد بالموت إلا بتدبير ثان أو عتق، وإن لم يقضه من غيره.. بيع العبد في الدين.
وإن قلنا بالطريقة الثانية، وأن الرهن لا يصح.. فالعبد على تدبيره.
وإن قلنا بالطريقة الثالثة، وأن الرهن صحيح، والتدبير صحيح... نظرت:
فإن حل الحق، وقضى الحق من غير الرهن.. بقي العبد على تدبيره.
وإن لم يقضه من غيره.. قيل له: أترجع في التدبير؟ فإن اختار الرجوع فيه ورجع.. بيع العبد في الدين، وإن لم يختر الرجوع فيه، فإن كان له مال غير العبد.. أجبر على قضاء الدين منه، وبقي العبد على التدبير، وإن لم يكن له مال غيره.. ففيه وجهان:
الأول: من أصحابنا من قال: يحكم بفساد الرهن؛ لأنا إنما صححنا الرهن رجاء أن يرجع في التدبير، فيباع. وتأول هذا القائل قول الشافعي: (كان الرهن مفسوخا) على هذا الموضع.
والثاني: منهم من قال: يباع في الدين، وهو الصحيح؛ لأنا إذا حكمنا بصحة الرهن.. لم يتعقبه الفساد بامتناع الراهن، ومن حكم الرهن أن يباع في الدين.